لماذا ستنجح المصادر المفتوحة ؟
يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً.
ويتضح جلياً أن نظام لينكس يشكل (المثالَ الأفضل) لما نحن بصدده الآن..
فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نوم فوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية..!
عن كتاب لينوس تورفالدز ( للمتعة فقط )
نقلها إلى العربية: محمد أنس طويلة
رئيس جمعية لينكس سوريا
يزخر تاريخ شركة IBM بالكثير من القصص والروايات عن المشاكل التي افتعلتها مع الآخرين فقد كانت سياسة هذه الشركة الأساسية في جني الأرباح هي الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الزبائن مهما كلفها ذلك من مواجهات مع الشركات الأخرى. ولنكون أكثر امانة، فقد اتبعت غالبية شركات تقنية المعلومات في تلك الفترة السياسة ذاتها وما زال بعضها يقوم بذلك حتى يومنا هذا! ولكن عندما طورت IBM الحاسوب الشخصي فقد قامت (دون عمد) بفتح تقنيته وإتاحتها للجميع ليقوم من شاء باستنساخها.
هذا العمل بالتحديد كان المحرك الأساسي لإشعال ثورة الحواسيب الشخصية، والتي قامت بدورها بإشعال ثورة المعلومات، ثورة الإنترنت، الاقتصاد الجديد- أو باختصار كل ما قد نعتبره تغيراً هائلاً يحصل في أصقاع العالم.
هذا المثال يوضح بشكل كبير المزايا اللامحدودة التي يمكن أن نجنيها من فلسفة المصادر المفتوحة. فعلى الرغم من أن الحواسيب الشخصية لم تتطور تبعاً لنموذج تطوير المصادر المفتوحة، إلا أنها تعتبر مثالاً لتقنية مفتوحة أتيح لأي شخص أو شركة استنساخها وتطويرها وبيعها. يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً. ويتضح جلياً أن لينكس يشكل المثال الأفضل لما نحن بصدده الآن فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نومي الفوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية.
لقد بدأت هذه الحركة كفكرة مشتركة بين مطوري البرمجيات المؤمنين بضرورة إتاحة الشيفرة المصدرية للبرامج الحاسوبية بحرية مطلقة، متخذين من رخصة الاستخدام العمومية General Public License (GPL) أداتهم الفاعلة. تطورت هذه الفكرة لتصبح وسيلة التطوير المستمر لأفضل التقنيات، ومن ثم تطورت لتحظى بقبول واسع النطاق في أسواق العالم، وهو تماماً ما حصل في الأثر المشابه لتضخم كرة الثلج في اعتماد نظام التشغيل لينكس في مخدمات الوب غبر العالم، وفي العوائد السخية التي حققها للشركات التي أخذت زمام البادرة وتبنت لينكس كالمصدر الأساسي لجني الأرباح.
إن ما بدأ كفكرة أثبت نجاعته كتقنية ونجح في الأسواق التنافسية في العالم. والآن تتطور المصادر المفتوحة إلى ما وراء النواحي التقنية والتجارية، حيث يقوم البروفيسور لاري ليسيغ وتشارلز نيسون في جامعة هارفارد للقانون بنقل فلسفة المصادر المفتوحة إلى عالم القانون عندما أطلقا مشروع القانون المفتوح Open Law Project والذي يعتمد على متطوعين حقوقيين وطلاب في كليات الحقوق بإرسال الأبحاث والآراء إلى موقع المشروع على الإنترنت للمساهمة في تطوير المرافعات والإعتراضات على مشروع الولايات المتحدة لتوسيع حقوق الملكية الفكرية. الفكرة الأساسية وراء المشروع تكمن في أن أكثر المرافعات قوة ستتطور عبر مساهمة أكبر قدر ممكن من المفكرين الحقوقيين في هذا المشروع، إضافة إلى تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات عبر مساهمات هؤلاء المفكرين ضمن الموقع. يحاول هذا الموقع بيان المحور الأساسي الذي يميزه عن الأسلوب التقليدي: "سنتوقع أن نعوض ما سنخسره نتيجة التخلي عن السرية في أعمالنا بما سنحصل عليه من قوة في المرافعة وعمق في مصادر المعلومات" (أو بمعني آخر: بوجود مليون مراقب ستختفي مشاكل البرمجيات بسرعة فائقة).
ويصح طبعاً تطبيق ذلك على أساليب إجراء البحث العلمي منذ القدم، وعلى أكثر من جانب، لنتخيل مثلاً كيف يمكننا هذا الأسلوب من تسريع تطوير علاجات الأمراض، أو كيف يمكن عبر استثمار أفضل المفكرين أن تتطور السياسية الدولية. مع تحول العالم أكثر فأكثر إلى قرية صغيرة فإن إيقاع الحياة والعمل سيزداد كثافة، ومع توافر التقنية والمعلومات سيجد الناس أكثر فأكثر أن الأسلوب التقليدي في إخفاء المعلومات آخذ في التلاشي وبسرعة فائقة.
إن النظرية الكامنة وراء فلسفة المصادر بسيطة للغاية، ففي حالة نظام التشغيل فإن الشيفرة المصدرية – مجموعة التعليمات البرمجية التي تشكل هذا النظام – متاحة بحرية، وبإمكان أي كان تطويرها أو تعديلها أو استثمارها. ولكن هذه التطويرات والتعديلات يجب أن تتاح أيضاً بحرية للآخرين. أي أن المشاريع في عالم المصادر المفتوحة ليست ملكاً لأحد وفي نفس الوقت ملك للجميع، عندما يتم إطلاق مشروع ما يستقطب هذا المشروع الكثير من جهود التطوير والتحديث، ومع إسهام العديد من فرق المطورين في العمل بالتوازي فإن النتائج ستتحقق بسرعة أكبر ونجاح أفضل فيما لو تم هذا التطوير وراء أبوب موصدة.
وهو بالتمام ما شهدناه في لينكس، تخيل أنه عوضاً عن وجود فريق تطوير صغير منغلق يعمل بالسر فإنك يملك جيشاً مؤلفاً من الملايين من أفضل الأدمغة حول العالم يسهمون في تطوير مشروع ما، ويقومون على الدوام بمراجعة مساهمات بعضهم بعضاً ضمن آلية لا مثيل لها.
يتعجب معظم الناس عند سماعهم عن فلسفة المصادر المفتوحة للمرة الأولى، وهو ما تعزى إليه على الأغلب السنوات التي تطلبها انتشار هذه الرسالة على ما هي عليه الآن. من المؤكد أن المصادر المفتوحة لم تنتشر بسبب الفكرة المجردة لذاتها، فقد بدأت المصادر المفتوحة بلفت الانتباه عندما أصبح جلياً بأنها الطريقة الأمثل لتطوير أعلى نوعيات التقانة. والآن نشهد انتشار المصادر المفتوحة في عالم الأعمال أيضاً (وهو ما ساهم أيضاً بدوره في توسيع قاعدة تقبل المصادر المفتوحة) فقد أنشئت شركات عدة بالاعتماد على خدمات القيمة المضافة المتاحة في فلسفة المصادر المفتوحة، أو عبر الاعتماد على المصادر المفتوحة كوسيلة لزيادة شعبة تقنية ما. عندما يتحدث المال، يقتنع الناس!
من أكثر جزئيات فلسفة المصادر المفتوحة جدلاً التساؤل الذي يطرحه الكثيرون: ما الذي يدعو هذا العدد الهائل من المبرمجين الموهوبين للعمل دون مقابل؟ وهنا لا بد لنا من ذكر مفهوم (الحوافز)، ففي مجتمع يعتبر فيه تأمين الحاجات الأساسية للإنسان مضموناً إلى حد ما، فإن المال يفقد قيمته كأكثر الحوافز أهمية، ومن المعروف أن الإنسان يعطي أفضل ما لديه عندما يكون مدفوعاً بهاجس تحقيق حلم ما، عندما يحصل على المتعة الحقيقية. وهو ما ينطبق على مهندسي البرمجيات كما ينطبق على الفنانين والنحاتين والمبدعين. تتيح فلسفة المصادر المفتوحة للناس أن يعيشوا أحلامهم، أن يحصوا على المتعة الحقيقية التي يبتغون، وأن يعملوا مع أفضل المبرمجين في العالم، وليس فقط تلك القلة التي حصل وتم توظيفها ضمن الشركة التي يعملون فيها. يعمل مطوروا المصادر المفتوحة جاهدين لكسب احترام نظرائهم، وهو ما أثبت أنه من أكثر الحوافز الإنسانية فاعليةً.
يبدو أن بيل غيتس لم يتمكن من فهم هذه الفكرة، ومن الجائز أنه خجل الآن من سؤال أدلى به في عام 1976 عندما تساءل في رسالة إلى مطوري برمجيات المصادر المفتوحة: "أي أنك ستحول دون تطوير برمجيات جيدة، من يستطيع العمل بشكل محترف دون مقابل؟".
في الحقيقة، يمكننا فهم فلسفة المصادر المفتوحة بالعودة إلى الكيفية التي تعاملت بها الديانات مع العلوم منذ عدة قرون خلت، فقد نظر بعض رجال الدين إلى العلوم ككائن خطر ومضاد للمنظومة – تماماً كما تنظر بعض شركات صناعة البرمجيات أحياناً إلى المصادر المفتوحة. وكما أن العلوم لم تهدف يوماً إلى التقليل من شأن المنظومات الدينية، فإن المصادر المفتوحة لم تتطور بغاية أذية منظومة تطوير البرمجيات، لقد تطورت لإنتاج أفضل تقنية، وهو هدفها الأساس حتى يومنا هذا.
لا تنتج العلوم بحد ذاتها أموالاً، بل كانت (وما زالت) الآثار الجانبية لهذه العلوم المصدر لثروات العالم، والأمر نفسه ينطبق على المصادر المفتوحة، فهي تتيح بناء صناعات ثانوية تتحدى الشركات الحالية، تجد مثلاً شركات صغيرة مثل VA Linux تستثمر فلسفة المصادر المفتوحة لتصبح فجأة قادرة على منافسة كبريات الشركات التقليدية، مطبقين ما قاله قال السير اسحق نيوتن: (بالوقوف على أكتاف العمالقة).
وكلما ازداد انتشار المصادر المفتوحة في الاقتصاد العالمي، وكلما تعاظمت سمعة مطوريها، كلما ازدادت قيمة هؤلاء المطورين في سوق التوظيف. عادة ما تبحث الشركات ضمن قوائم المطورين المرفقة مع برمجيات المصادر المفتوحة لتحديد أكثر المساهمين نشاطاً لتوعز فيما بعد إلى قسم إدارة الموارد البشرية لديها لإغراء هؤلاء للعمل لديهم بشتى الوسائل. وقد قلت في فقرة سابقة بأن المال قد يفقد قيمته كحافز أساسي، وأنا ما زلت عند كلامي، ولكنني سأقول بأن المال ليس بحد ذاته سيئاً فيما لو حصلت عليه مقابل العمل الجاد. وتبدو أهميته جلية عندما أضطر مثلاً لملء سيارتي ال BMW بالوقود!
وكما في العلوم، فإن الآثار الجانبية للمصادر المفتوحة غير محدودة، فهي تبني أشياء كانت تعتبر حتى عهد قريب مستحيلة، وتفتح آفاق أسواق جديدة لم نكن حتى لنتنبأ بوجودها! مع لينكس، كما في جميع مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر الأخرى، تستطيع الشركات بناء اصداراتها الخاصة وتعديلاتها الخاصة، وهو ما يعتبر مستحيلاً بأية طريقة أخرى. من الممتع أن نلحظ أن جميع ما قد تم عمله باستخدام لينكس تقريباً لم يكن متوقعاً حتى في أبعد تقديراتنا عندما بدأنا. لينكس الآن يشهد انتشاراً منقطع النظير في الصين، في السابق، غالباً ما كان يقتصر تطوير البرمجيات في آسيا على ترجمة البرمجيات الأوروبية أو الأمريكية، أما الآن يقوم أصدقاؤنا في تلك البقعة من العالم باستخدام لينكس لتطوير برمجياتهم الخاصة. وأنا فخور بالفعل بالشخص الذي اقترب مني في معرض كومدكس ليريني مضخة وقود تعمل بنظام التشغيل لينكس لأنه أراد أن يضمنها متصفحاً للإنترنت ليستطيع الزبائن تصفح موقع CNN.com مثلاً أثناء الدقائق التي سينتظرون خلالها ملء خزانات سياراتهم بالوقود. الوقوف على أكتاف العمالقة!
يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً.
ويتضح جلياً أن نظام لينكس يشكل (المثالَ الأفضل) لما نحن بصدده الآن..
فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نوم فوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية..!
عن كتاب لينوس تورفالدز ( للمتعة فقط )
نقلها إلى العربية: محمد أنس طويلة
رئيس جمعية لينكس سوريا
يزخر تاريخ شركة IBM بالكثير من القصص والروايات عن المشاكل التي افتعلتها مع الآخرين فقد كانت سياسة هذه الشركة الأساسية في جني الأرباح هي الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الزبائن مهما كلفها ذلك من مواجهات مع الشركات الأخرى. ولنكون أكثر امانة، فقد اتبعت غالبية شركات تقنية المعلومات في تلك الفترة السياسة ذاتها وما زال بعضها يقوم بذلك حتى يومنا هذا! ولكن عندما طورت IBM الحاسوب الشخصي فقد قامت (دون عمد) بفتح تقنيته وإتاحتها للجميع ليقوم من شاء باستنساخها.
هذا العمل بالتحديد كان المحرك الأساسي لإشعال ثورة الحواسيب الشخصية، والتي قامت بدورها بإشعال ثورة المعلومات، ثورة الإنترنت، الاقتصاد الجديد- أو باختصار كل ما قد نعتبره تغيراً هائلاً يحصل في أصقاع العالم.
هذا المثال يوضح بشكل كبير المزايا اللامحدودة التي يمكن أن نجنيها من فلسفة المصادر المفتوحة. فعلى الرغم من أن الحواسيب الشخصية لم تتطور تبعاً لنموذج تطوير المصادر المفتوحة، إلا أنها تعتبر مثالاً لتقنية مفتوحة أتيح لأي شخص أو شركة استنساخها وتطويرها وبيعها. يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً. ويتضح جلياً أن لينكس يشكل المثال الأفضل لما نحن بصدده الآن فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نومي الفوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية.
لقد بدأت هذه الحركة كفكرة مشتركة بين مطوري البرمجيات المؤمنين بضرورة إتاحة الشيفرة المصدرية للبرامج الحاسوبية بحرية مطلقة، متخذين من رخصة الاستخدام العمومية General Public License (GPL) أداتهم الفاعلة. تطورت هذه الفكرة لتصبح وسيلة التطوير المستمر لأفضل التقنيات، ومن ثم تطورت لتحظى بقبول واسع النطاق في أسواق العالم، وهو تماماً ما حصل في الأثر المشابه لتضخم كرة الثلج في اعتماد نظام التشغيل لينكس في مخدمات الوب غبر العالم، وفي العوائد السخية التي حققها للشركات التي أخذت زمام البادرة وتبنت لينكس كالمصدر الأساسي لجني الأرباح.
إن ما بدأ كفكرة أثبت نجاعته كتقنية ونجح في الأسواق التنافسية في العالم. والآن تتطور المصادر المفتوحة إلى ما وراء النواحي التقنية والتجارية، حيث يقوم البروفيسور لاري ليسيغ وتشارلز نيسون في جامعة هارفارد للقانون بنقل فلسفة المصادر المفتوحة إلى عالم القانون عندما أطلقا مشروع القانون المفتوح Open Law Project والذي يعتمد على متطوعين حقوقيين وطلاب في كليات الحقوق بإرسال الأبحاث والآراء إلى موقع المشروع على الإنترنت للمساهمة في تطوير المرافعات والإعتراضات على مشروع الولايات المتحدة لتوسيع حقوق الملكية الفكرية. الفكرة الأساسية وراء المشروع تكمن في أن أكثر المرافعات قوة ستتطور عبر مساهمة أكبر قدر ممكن من المفكرين الحقوقيين في هذا المشروع، إضافة إلى تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات عبر مساهمات هؤلاء المفكرين ضمن الموقع. يحاول هذا الموقع بيان المحور الأساسي الذي يميزه عن الأسلوب التقليدي: "سنتوقع أن نعوض ما سنخسره نتيجة التخلي عن السرية في أعمالنا بما سنحصل عليه من قوة في المرافعة وعمق في مصادر المعلومات" (أو بمعني آخر: بوجود مليون مراقب ستختفي مشاكل البرمجيات بسرعة فائقة).
ويصح طبعاً تطبيق ذلك على أساليب إجراء البحث العلمي منذ القدم، وعلى أكثر من جانب، لنتخيل مثلاً كيف يمكننا هذا الأسلوب من تسريع تطوير علاجات الأمراض، أو كيف يمكن عبر استثمار أفضل المفكرين أن تتطور السياسية الدولية. مع تحول العالم أكثر فأكثر إلى قرية صغيرة فإن إيقاع الحياة والعمل سيزداد كثافة، ومع توافر التقنية والمعلومات سيجد الناس أكثر فأكثر أن الأسلوب التقليدي في إخفاء المعلومات آخذ في التلاشي وبسرعة فائقة.
إن النظرية الكامنة وراء فلسفة المصادر بسيطة للغاية، ففي حالة نظام التشغيل فإن الشيفرة المصدرية – مجموعة التعليمات البرمجية التي تشكل هذا النظام – متاحة بحرية، وبإمكان أي كان تطويرها أو تعديلها أو استثمارها. ولكن هذه التطويرات والتعديلات يجب أن تتاح أيضاً بحرية للآخرين. أي أن المشاريع في عالم المصادر المفتوحة ليست ملكاً لأحد وفي نفس الوقت ملك للجميع، عندما يتم إطلاق مشروع ما يستقطب هذا المشروع الكثير من جهود التطوير والتحديث، ومع إسهام العديد من فرق المطورين في العمل بالتوازي فإن النتائج ستتحقق بسرعة أكبر ونجاح أفضل فيما لو تم هذا التطوير وراء أبوب موصدة.
وهو بالتمام ما شهدناه في لينكس، تخيل أنه عوضاً عن وجود فريق تطوير صغير منغلق يعمل بالسر فإنك يملك جيشاً مؤلفاً من الملايين من أفضل الأدمغة حول العالم يسهمون في تطوير مشروع ما، ويقومون على الدوام بمراجعة مساهمات بعضهم بعضاً ضمن آلية لا مثيل لها.
يتعجب معظم الناس عند سماعهم عن فلسفة المصادر المفتوحة للمرة الأولى، وهو ما تعزى إليه على الأغلب السنوات التي تطلبها انتشار هذه الرسالة على ما هي عليه الآن. من المؤكد أن المصادر المفتوحة لم تنتشر بسبب الفكرة المجردة لذاتها، فقد بدأت المصادر المفتوحة بلفت الانتباه عندما أصبح جلياً بأنها الطريقة الأمثل لتطوير أعلى نوعيات التقانة. والآن نشهد انتشار المصادر المفتوحة في عالم الأعمال أيضاً (وهو ما ساهم أيضاً بدوره في توسيع قاعدة تقبل المصادر المفتوحة) فقد أنشئت شركات عدة بالاعتماد على خدمات القيمة المضافة المتاحة في فلسفة المصادر المفتوحة، أو عبر الاعتماد على المصادر المفتوحة كوسيلة لزيادة شعبة تقنية ما. عندما يتحدث المال، يقتنع الناس!
من أكثر جزئيات فلسفة المصادر المفتوحة جدلاً التساؤل الذي يطرحه الكثيرون: ما الذي يدعو هذا العدد الهائل من المبرمجين الموهوبين للعمل دون مقابل؟ وهنا لا بد لنا من ذكر مفهوم (الحوافز)، ففي مجتمع يعتبر فيه تأمين الحاجات الأساسية للإنسان مضموناً إلى حد ما، فإن المال يفقد قيمته كأكثر الحوافز أهمية، ومن المعروف أن الإنسان يعطي أفضل ما لديه عندما يكون مدفوعاً بهاجس تحقيق حلم ما، عندما يحصل على المتعة الحقيقية. وهو ما ينطبق على مهندسي البرمجيات كما ينطبق على الفنانين والنحاتين والمبدعين. تتيح فلسفة المصادر المفتوحة للناس أن يعيشوا أحلامهم، أن يحصوا على المتعة الحقيقية التي يبتغون، وأن يعملوا مع أفضل المبرمجين في العالم، وليس فقط تلك القلة التي حصل وتم توظيفها ضمن الشركة التي يعملون فيها. يعمل مطوروا المصادر المفتوحة جاهدين لكسب احترام نظرائهم، وهو ما أثبت أنه من أكثر الحوافز الإنسانية فاعليةً.
يبدو أن بيل غيتس لم يتمكن من فهم هذه الفكرة، ومن الجائز أنه خجل الآن من سؤال أدلى به في عام 1976 عندما تساءل في رسالة إلى مطوري برمجيات المصادر المفتوحة: "أي أنك ستحول دون تطوير برمجيات جيدة، من يستطيع العمل بشكل محترف دون مقابل؟".
في الحقيقة، يمكننا فهم فلسفة المصادر المفتوحة بالعودة إلى الكيفية التي تعاملت بها الديانات مع العلوم منذ عدة قرون خلت، فقد نظر بعض رجال الدين إلى العلوم ككائن خطر ومضاد للمنظومة – تماماً كما تنظر بعض شركات صناعة البرمجيات أحياناً إلى المصادر المفتوحة. وكما أن العلوم لم تهدف يوماً إلى التقليل من شأن المنظومات الدينية، فإن المصادر المفتوحة لم تتطور بغاية أذية منظومة تطوير البرمجيات، لقد تطورت لإنتاج أفضل تقنية، وهو هدفها الأساس حتى يومنا هذا.
لا تنتج العلوم بحد ذاتها أموالاً، بل كانت (وما زالت) الآثار الجانبية لهذه العلوم المصدر لثروات العالم، والأمر نفسه ينطبق على المصادر المفتوحة، فهي تتيح بناء صناعات ثانوية تتحدى الشركات الحالية، تجد مثلاً شركات صغيرة مثل VA Linux تستثمر فلسفة المصادر المفتوحة لتصبح فجأة قادرة على منافسة كبريات الشركات التقليدية، مطبقين ما قاله قال السير اسحق نيوتن: (بالوقوف على أكتاف العمالقة).
وكلما ازداد انتشار المصادر المفتوحة في الاقتصاد العالمي، وكلما تعاظمت سمعة مطوريها، كلما ازدادت قيمة هؤلاء المطورين في سوق التوظيف. عادة ما تبحث الشركات ضمن قوائم المطورين المرفقة مع برمجيات المصادر المفتوحة لتحديد أكثر المساهمين نشاطاً لتوعز فيما بعد إلى قسم إدارة الموارد البشرية لديها لإغراء هؤلاء للعمل لديهم بشتى الوسائل. وقد قلت في فقرة سابقة بأن المال قد يفقد قيمته كحافز أساسي، وأنا ما زلت عند كلامي، ولكنني سأقول بأن المال ليس بحد ذاته سيئاً فيما لو حصلت عليه مقابل العمل الجاد. وتبدو أهميته جلية عندما أضطر مثلاً لملء سيارتي ال BMW بالوقود!
وكما في العلوم، فإن الآثار الجانبية للمصادر المفتوحة غير محدودة، فهي تبني أشياء كانت تعتبر حتى عهد قريب مستحيلة، وتفتح آفاق أسواق جديدة لم نكن حتى لنتنبأ بوجودها! مع لينكس، كما في جميع مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر الأخرى، تستطيع الشركات بناء اصداراتها الخاصة وتعديلاتها الخاصة، وهو ما يعتبر مستحيلاً بأية طريقة أخرى. من الممتع أن نلحظ أن جميع ما قد تم عمله باستخدام لينكس تقريباً لم يكن متوقعاً حتى في أبعد تقديراتنا عندما بدأنا. لينكس الآن يشهد انتشاراً منقطع النظير في الصين، في السابق، غالباً ما كان يقتصر تطوير البرمجيات في آسيا على ترجمة البرمجيات الأوروبية أو الأمريكية، أما الآن يقوم أصدقاؤنا في تلك البقعة من العالم باستخدام لينكس لتطوير برمجياتهم الخاصة. وأنا فخور بالفعل بالشخص الذي اقترب مني في معرض كومدكس ليريني مضخة وقود تعمل بنظام التشغيل لينكس لأنه أراد أن يضمنها متصفحاً للإنترنت ليستطيع الزبائن تصفح موقع CNN.com مثلاً أثناء الدقائق التي سينتظرون خلالها ملء خزانات سياراتهم بالوقود. الوقوف على أكتاف العمالقة!
تعليق